هذه قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، والتي يتعين إبرازها للناس، وخصوصًا في هذا الزمن الذي راجت فيه سوق السحرة والمشعوذين، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه:٦٩] (*١*)، وفي معنى هذه القاعدة قوله تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ [يونس:٧٧].
وهذه القاعدة جاءت ضمن قصة موسى مع سحرة فرعون في سورة طه، بعد أن واعدهم موسى، هو في خندق، وفرعون ومن معه من السحرة في خندق آخر، فلما اجتمعوا: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه:٦٥-٦٩].
ووجه اطراد هذه القاعدة: أن المتقرر في علم النحو: أن الفعل المضارع إذا كان في سياق النفي فإن ذلك يكسبه صفة العموم، وهكذا الفعل (لا يفلح) فإنه جاء في سياق النفي، فدل ذلك على عمومه، فلن يفلح ساحر أبدًا، مهما احتال، وتأمل كيف عمم ذلك بالأمكنة فقال: ﴿حَيْثُ أَتَى﴾ (*٢*).
وفي اختيار الفعل ﴿أَتَى﴾ دون قوله -مثلًا-: حيث كان، أو حيث حل سرٌ، ولعل السر في ذلك: من أجل مراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر المختلفة، كما قال تعالى: ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء:٣٨] (*٣*).
يقول العلامة الشنقيطي -معلقًا على نفي الفلاح عن الساحر مطلقًا-:
«وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيًا عامًا إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران:
الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة:١٠٢]، فقوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ يدل على أنه لو كان ساحرًا -وحاشاه من ذلك- لكان كافرًا، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ صريح في كفر معلم السحر.
الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة (لا يفلح) يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة يونس: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [يونس:٦٨-٦٩]، وقولِه في سورة يونس أيضًا: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس:١٧]» (*٤*).
كم هي الآيات التي تحدثت عن السحر والسحرة في كتاب الله تعالى، وأخبرت عن ضلالهم، وخسارتهم في الدنيا والآخرة! ومع هذا فيتعجب المؤمن كثيرًا؛ من رواج سوق السحر والسحرة في بلاد الإسلام!
وليس العجب من وجود ساحر أو ساحرة؛ فهذا لم يخل منه أفضل الأزمان، وهو الزمن الذي عاش فيه النبي ﷺ فضلًا عن غيره!
وليس العجبُ -أيضًا- من ساحر يسعى لكسب الأموال بأي طريق!
لكن العجب من أمة تقرأ هذا الكتاب العظيم، وتقرأ ما فيه من آيات صريحة واضحة في التحذير من السحر وأهله، وبيان سوء عاقبتهم ومآلهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يقفون زرافاتٍ ووحدانًا أمام عتبات أولئك السحرة المجرمين!! سواء أمام بيوتهم، أم أمام شاشات قنوات السحر والشعوذة، والتي راجت سوقها منذ فترة من الزمن! يلتمسون منهم التسبب في إيقاع الضر بأحد أو إزالته عن آخر، وكأن هؤلاء لم يقرؤوا قول الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:١٠٢]!
والمقطوع به أنه لولا تكاثر الناس على هؤلاء السحرة لما راجت سوقهم، وانتشر باطلهم!
إن مرور الإنسان بحالة مرضية صعبة، أو حالة نفسية شديدة، لا يبيح له بحال أن يرد هذه السوق الكاسدة -سوق السحرة- وكيف يرجى الربح من أناس حكم عليهم ربهم بالخسران؟! وإن الله تعالى أرحم وأحكم من أن يحرم عليهم إتيان السحرة، ولا ينزل لهم دواء لما ابتلوا به! كما قال النبي ﷺ: «لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز و جل» (*٥*).
وفي البخاري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء» (*٦*).
ولعظيم ضرر السحر، فقد حرمته جميع الشرائع.
إن من أيقن بأن الساحر لا يفلح حيثُ أتى، وأيقن بأنه لا يفلح الساحرون، دفعه هذا إلى أمورٍ، من أهمها:
- البعد عن إتيان هذا الصنف من الناس الذين نفى الله فلاحهم في الدنيا والآخرة -بغية علاج أو نحوه- وكيف يرتجى النفع ممن حكم عليه رب العالمين بأنه خاسر في الدنيا والآخرة!!
- الحذر من التفكير في ممارسة شيء من أنواع السحر، مهما كان المبرر، سواء بقصد العطف، أو الصرف -كما تفعله بعض النساء- وتظن أن قصدَ استمالةِ الزوجِ، أو منعِه من الزواج عليها، ونحو ذلك من الشبه، أن ذلك يبيح لها ما تصنع، فإن هذا كله من تزيين الشيطان وتلبيسه.
- ليعلم كل من يمارس السحر أو تسبب في فعله ذلك أنه على خطر عظيم، وأنه قد باع دينه بثمن بخس، وأن الشياطين هم شيوخه وأساتذته في عمله هذا، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ…﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:١٠٢].
- إن ضعفت النفس لحظة، وزين الشيطان لها شيئًا من هذه الأفعال المنكرة، فليبادر بالتوبة الآن، وليقلع عن هذا العمل الباطل، وليتحلل ممن لحقه الأذى من جراء هذا الفعل، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وقبل أن يوقف للحساب بين يدي من لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم من هو الساحر؟ ومن هو المسحور؟ ومن هو المتسبب في ذلك كله! فيقتص للمظلوم من ظالمه، حين تكون الحسنة أغلى من الدنيا وما عليها!
إن يقين المؤمن بهذه القاعدة: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ مما يقوي عبادة التوكل عنده، وعدم الخوف من إرهاب هذا الصنف الحقير من الناس، وهم السحرة، ويتذكر عندها قول الله عز وجل: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ وفي قراءة: ﴿أليس الله بكافٍ عباده﴾؟ والجواب: بلى والله.
ومما يحسن تأمله والتفكرُ فيه: أن هؤلاء السحرة رغم ما يملكون من الأموال، وما يعيشونه من سكرة التفات الناس إليهم، إلا أنهم من أتعس الناس حياةً، وأخبثهم نفوسًا، ولا عجب! فمن سلّم قياده للشياطين، وكفر برب العالمين، كيف يسعد أم كيف يفلح؟!
قواعد قرآنية