هذه قاعدة قرآنية عظيمة، تؤسس لمبدأ من أشرف المبادئ، وهو مبدأ العدل، وهي قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء؛ لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر:٧] (*١*).
ومعنى هذه القاعدة باختصار: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئة أحد، ما لم يكن سببًا فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته.
ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل -وهو ما يحمله المرء على ظهره - فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخيَّلُ ثقيلًا على نفس المؤمن (*٢*).
وهذه القاعدة القرآنية -بهذا النص- تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا -بلا شك- له دلالته ومغزاه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم:٣٣-٤١].
وهذا المعنى الذي قررتْه القاعدة لا يُعارِض ما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت:١٣]، وقولُه: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل:٢٥]؛ لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم.
ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمنًا لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تمامًا، فقالوا -كما حكى الله عنهم-: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت:١٢-١٣].
ولو تأملت كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد والفقه وغيرها؛ لرأيت عجبًا من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة:
فكم من رأي نقَضَه فقيهٌ بهذه الآية! بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المستدل بهذه الآية! والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.
وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها: تطبيق نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه؛ جاء إخوته يقولون: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:٧٨]، فأجابهم يوسف قائلًا: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [يوسف:٧٩].
قارن هذا -بارك الله فيك- بقول فرعون حينما قال له كهنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! فأصدر مرسومه الظالم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل -وهم بالآلاف، وربما بعشراتها- من أجل طفلٍ واحد فقط!! ولكن من كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى فلا يستغرب منه هذا الأمر!
وفي واقع من الناس مَن سار على هدي يوسف، فتراه لا يؤاخذ إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يُوسِّع دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ؛ بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك.
وفي المقابل: ففي واقع الناس من يأخذ المحسنين أو البرءاء بذنب المسيئين.
وإليك هذه الصورة التي قد تتكرر كثيرًا في واقع بيوتنا:
يعود الرجل من عمله متعبًا، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله -إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة- أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته -كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس- فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة -مثلًا-؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟! وما ذنب الزوجة -مثلًا- حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟! ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسئول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم علاقة بها!!
هنا يستحضر المؤمن أمورًا، من أهمها: أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ؛ فإن هذا خيرٌ وأحسن تأويلًا، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية: وهي أن البعض يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من بعض العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعًا من المجتمعات، أو بلدًا من البلدان، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسبب خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادرًا على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة -عياذًا بالله- مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.
تأمل معي قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال:٢٥].
يقول العلامة السعدي -رحمه الله- (*٣*) في تفسير هذه الآية: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.
ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن -كما يقول الحافظ ابن حجر (*٤*)- من حديث عدي بن عميرة سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله ﷻ لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم -وهم قادرون على أن ينكروه- فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».
وروى الإمام أحمد: في مسنده (*٥*) بسند جيد، عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه خطب فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة:١٠٥]، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه».
وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله ﷺ فقالت له: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (*٦*).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، يضيق المقام بذكرها، والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض للبعض في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قواعد قرآنية للدكتور عمر بن عبد الله المقبل