هذه قاعدة من قواعد التعامل مع النفس (*١*)، ووسيلة من وسائل علاجها من أدوائها، وهي في الوقت نفسه سلّمٌ لتترقى في مراقي التزكية، فإن الله تعالى قد أقسم أحد عشر قسمًا في سورة الشمس على هذا المعنى العظيم، ثم قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:٩].
ومعنى القاعدة باختصار: أن الإنسان وإن حاول أن يجادل عن أفعاله أو أقواله التي يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن نفسه باعتذارات، فهو يعرف تمامًا ما قاله وفعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات، فلا أحد أبصر ولا أعرف بما في نفسه من نفسه.
وتأمل كيف جاء التعبير بقوله: «بصيرة» دون غيرها من الألفاظ؛ لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك!
• من صور تطبيقات هذه القاعدة:
إن لهذه القاعدة القرآنية مجالات كثيرة في واقعنا العام والخاص، أذكر بعضها؛ لعلنا أن نفيد منها في تقويم أخطائنا، وتصحيح ما ندّ من سلوكنا، فمن ذلك:
١- في طريقة تعامل بعض الناس مع النصوص الشرعية:
فلربما بلغ البعضَ نصٌ واضح محكمٌ، لم يختلف العلماء في دلالته على إيجاب أو تحريم، أو تكون نفسه اطمأنت إلى حكمٍ ما، ومع هذا تجد البعض يقع في نفسه حرجٌ! ويحاول أن يجد مدفعًا لهذا النص أو ذاك؛ لأنه لم يوافق هواه!
ورحم الله ابن القيم حيث قال: «فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم تَرِدْ؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجىً في حلوقهم منها ومن موردها؟» (*٢*).
ولا ينفع الإنسان أن يحاول دفع النصوص بالصدر؛ فالإنسان على نفسه بصيرة، وشأن المؤمن أن يكون كما قال ربنا تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
يقول ابن الجوزي، في كتابه الماتع (صيد الخاطر) -وهو يحكي مشاعر إنسان يعيش هذه الحال مع النصوص الشرعية-: «قال بعض المعتبرين: قدرتُ مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة؛ إذ الأمر فيها متردد، فجاهدت النفس فقالت: أنتَ ما تقدر فلهذا تترك! فقَارِب المقدورَ عليه، فإذا تمكنتَ فتركتَ؛ كنت تاركًا حقيقة! ففعلتُ وتركتُ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه نفسي الجواز -وإن كان الأمر يحتمل-؛ فلما وافقتها أثّر ذلك ظلمة في قلبي؛ لخوفي أن يكون الأمر محرمًا، فرأيت أنها تارةً تقوى عليّ بالترخص والتأويل، وتارةً أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع، فإذا ترخصتُ لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظورًا، ثم أرى عاجلًا تأثير ذلك الفعل في القلب..» إلى أن قال: «فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملًا ومؤديًا إلى ما لا يجوز» (*٣*) انتهى كلامه.
٢- ومن مجالات تفعيل هذه القاعدة -في مجال التعامل مع النفس-:
أن من الناس من شُغف -عياذًا بالله- بتتبع أخطاء الناس وعيوبهم، مع غفلة عن عيوب نفسه، كما قال قتادة -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ : إذا شئت والله رأيته بصيرًا بعيوب الناس وذنوبهم، غافلًا عن ذنوبه (*٤*)، وهذا -بلا ريب- من علامات الخذلان، كما قال بكر بن عبد الله المزني: إذا رأيتم الرجل موكلًا بعيوب الناس، ناسيًا لعيبه؛ فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِهِ.
ويقول الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبىء منها شيئًا (*٥*)، ولهذا يقول أحد السلف: أنفع الصدق أن تُقر لله بعيوب نفسك (*٦*).
ومن مواضع تطبيق هذه القاعدة: أن ترى بعض الناس يجادل عن نفسه في بعض المواضع -التي تَبَين فيها خطؤه- بما يعلم في قرارة نفسه أنه غير مصيب، كما يقول ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه على هذه الآية: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ : فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك (*٧*).
ومن دلالات هذه القاعدة الشريفة:
أن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى في التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق.
وإليك هذا النموذج المشرق من حياة الإمام ابن حزم -رحمه الله-، حيث يقول -في تقرير هذا المعنى-:
«كانت فيَّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطّلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين -في الأخلاق وفي آداب النفس- أعاني مداواتها، حتى أعان الله على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها؛ ليتعظ بذلك متعظ يومًا إن شاء الله» (*٨*).
ثم ساق الإمام ابن حزم جملة من العيوب التي كانت فيه، وكيف حاول التغلب عليها، ومقدار ما نجح فيه نجاحًا تامًا، وما نجح فيه نجاحًا نسبيًا.
ومن مواطن استفادة المؤمن من هذه القاعدة:
أن الإنسان ما دام يعلم أنه أعلم بنفسه من غيره؛ وجب عليه أن يتفطن أن الناس قد يمدحونه في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في ذلك، وفي المقابل قد يسمع يومًا من الأيام من يضع من قدره، أو يخفض من شأنه بنوع من الظلم والبغي، فمن عرف نفسه لم يغتر بمدحه بما ليس فيه، ولم يتضرر بذمه بما ليس فيه، بل يستفيد من ذلك بتصحيح ما فيه من أخطاء، ويسعى لتكميل نفسه بأنواع الكمالات البشرية قدر المستطاع.
ومن أشرف مجالات تطبيق هذه القاعدة:
أن من أكبر ثمرات البصيرة بالنفس: أن يوفَّق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين:
فتأمل في قول أبوينا -حين أكلا من الشجرة-: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:٢٣].
وقولِ نوح عليه السلام -عندما نهاه الله أن يسأله ما ليس له به علم-: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود:٤٧].
وقولِ موسى عليه السلام -ندمًا على قتله القبطي-: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص:١٦]، في سلسلة متتابعة كان من آخرها: ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم؛ فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٠٢] «فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين» (*٩*).
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يقينا شرها.
قواعد قرآنية. الدكتور عمر بن عبد الله المقبل