الإنسان مدني بطبعه كما يقال، وكثرة تعاملاته اليومية تحتم عليه الاحتكاك بطوائف من الناس، مختلفي الأفهام والأخلاق، يسمع الحسن وغيره، ويرى ما يستثيره؛ فتأتي هذه القاعدة لتضبط علاقته اللفظية.
إنها قاعدة تكرر ذكرها في القرآن في أكثر من موضع، إما صراحة أو ضمنًا: فمن المواضع التي توافق هذا اللفظ تقريبًا: قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء:٥٣].
وقريب من ذلك: أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت:٤٦].
أما التي توافقها من جهة المعنى فكثيرة كما سنشير إلى بعضها بعد قليل.
إذن: تأمل في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ جاءت في سياق أمر بني إسرائيل بجملة من الأوامر، وهي في سورة مدنية -وهي سورة البقرة- وقال قبل ذلك في سورة مكية -وهي سورة الإسراء- أمرًا عامًا: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ إذًا فنحن أمام أوامر محكمة، ولا يستثنى منها شيء إلا في حال مجادلة أهل الكتاب كما سبق.
ومن اللطائف مع هذه الآية ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ : أن هناك قراءة أخرى: ﴿وقولوا للناس حَسَنًا﴾ بفتح الحاء والسين.
قال أهل العلم: «والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته، وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيرًا؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير، وكل قول خير فهو حسن» (*١*).
إننا نحتاج إلى هذه القاعدة بكثرة، خاصةً وأننا في حياتنا نتعامل مع أصناف مختلفة من البشر، فيهم المسلم وفيهم الكافر، وفيهم الصالح والطالح، وفيهم الصغير والكبير، بل ونحتاجها للتعامل مع أخص الناس بنا: الوالدان، والزوج والزوجة والأولاد، بل ونحتاجها للتعامل بها مع من تحت أيدينا من الخدم ومن في حكمهم.
• من صور تطبيقات هذه القاعدة:
وأنت -أيها المؤمن- إذا قلَّبت القرآن؛ وجدتَ أحوالًا نص عليها القرآن كتطبيق عملي لهذه القاعدة، فمثلًا:
١- تأمل قول الله تعالى -عن الوالدين-: ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ إنه أمرٌ بعدم النهر، وهو متضمن للأمر بضده: وهو الأمر بالقول الكريم، الذي لا تعنيف فيه.
٢- وكذلك أيضًا فيما يخص مخاطبة السائل المحتاج: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ بل بعض العلماء يرى عمومها في كل سائل! سواء كان سائلًا للمال أو للعلم، قال بعض العلماء: «أي: فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء، أو رده بقول جميل» (*٢*).
٣- ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة القرآنية، ما أثنى الله به على عباد الرحمٰن، بقوله: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ يقول ابن جرير -رحمه الله- في بيان معنى هذه الآية: «وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب» (*٣*).
وهم يقولون ذلك «لا عن ضعف ولكن عن ترفع، ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع» (*٤*).
إن مما يُؤسف عليه أن يرى الإنسان كثرة الخرق لهذه القاعدة في واقع أمة القرآن، وذلك في أحوال كثيرة منها:
١- أنك ترى من يبشرون بالنصرانية يحرصون على تطبيق هذه القاعدة؛ من أجل كسب الناس إلى دينهم المنسوخ بالإسلام، أفليس أهلُ الإسلام أحق بتطبيق هذه القاعدة، من أجل كسب الخلق إلى هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله لعباده؟!
٢- في التعامل مع الوالدين.
٣- في التعامل مع أحد طرفي الحياة الزوجية.
٤- مع الأولاد.
٥- مع العمالة والخدم.
وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾، وعلى من ابتلي بسماع ما يكره أن يحاول أن يحتمل أذى من سمع منه، وأن يقول خيرًا، وأن يقابل السفه بالحلم، والقولَ البذيء بالحسن، وإلا فإن السفه والرد بالقول الرديء يُحسِنه كل أحد.
أفتى الإمام مالك -رحمه الله- لبعض الشعراء بما لا يوافقه، فقال: يا أبا عبد الله، أتظن الأمير لم يكن يعرف هذا القضاء الذي قضيته؟!
قال: بلى.
قال: إنما أرسلنا إليك لتصلح بيننا فلم تفعل، بالله لأقطعن جلدك هجاءً!
فقال له الإمام مالك:
إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة! وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعتَ أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم والمروءة (*٥*)!
المصدر :من كتاب 50قاعدة قرانية
د.عمر بن عبد الله المقبل